تمهيد

 
يوسف الأشقر, نشر على الإنترنت : الثلاثاء 24 كانون الثاني (يناير) 2006

موضوع هذا الكتاب هو الأمن. أمن البشرية الفيزيائي في القرن الحادي والعشرين.

كان مُعَدّاً للصدور في أيلول الماضي. لكنّ الحدث الأميركي سبقه.
وكانت كلمة التمهيد له تقتصر على فكرة واحدة تعبِّر عن التخوُّف الشديد من كارثة أمنية تحلّ بالمجتمع الأميركي، ومنه بالعالم، قبل أن تنتهي ولاية الرئيس بوش وقد جاء متأهّباً ومستنفَراً. فحصل بدء الكارثة في بدء الولاية.

الآن، وموضوع المخاوف الأولى قد تأكّد، وظلاميات القوى العظمى في عجلة من أمرها، وقوى التنوير مغلوبة، والدول صاغرة أو محيَّدة أو مأخوذة بـ"مكاسبها"، والمجتمعات مدفوعة إلى غرائزها، لا يسعنا إلاّ أن نتخوّف، بشكل مضاعَف، من نهايات مظلمة تدهمنا قبل أن تنتهي الولايات الظلامية في واشنطون وتلّ أبيب. لا سيما أنّ القوة العظمى الأميركية-الإسرائيلية والقوة العظمى المالية الجديدة تستعينان على شعوب العالم بصدام "الحضارات"، أي بالحروب الدينية، تعاجلان الشعوب بها حتى تفترق فيها وتتصادم.

ومن حرص القوة العظمى على الديمقراطية وعلى تعدُّد الخيارات، وَضَعتْ العالم كلّه أمام خيارين. فإمّا بوش وكيسينغر وشارون ونتنياهو، أو بن لادن. إمّا إسرائيل، أو طالبان. وإلى أن يعرف العالم أنّ هؤلاء جميعاً هم، في المعنى الأخير، خيار واحد لا خياران، قد يتمكّن بوش وشارون من التناسل والتكاثر والسيادة المطلقة في معسكرهما، ومن صنع بن لادنات وطالبانات متناسلة ومتكاثرة وسائدة في المعسكر الآخر وفي كل معسكر. فينظر قادة إسرائيل إلى ما صنعوه فيجدونه حسناً، ويرتاحون في اليوم السابع بعد أن أعادوا خلق العالم على صورة إسرائيل ومثالها.

جريمة القوة العظمى الأميركية-الإسرائيلية لا تنحصر بممارساتها في ذاتها، على فظاعاتها ومآسيها. إنها أيضاً، وبخاصّة، في ما تولّده وتُنتجه، أي في العالم القبيح الذي تصنعه. وقد إستطاعت، بالفعل وفي خلال أسابيع، أن تصدِّع جسوراً إنسانية بَنَتْها الشعوب لُبنةً لُبنةً، وأعلَتْها القرون الطويلة مدماكاً مدماكاً. وقد أثبت النظام العالمي الجديد الذي أنشأته أنه لا يتورّع عن تغيير وجه العالم إلى الأسوأ والأقبح، وأن يهدّد مصير الإنسانية كلّها، إذا ما أُصيبت مدينة أميركية أو إسرائيلية بمكروه. ولعلّه، بذلك، يقدِّم برهاناً على عدم أهليته ليحكم العالم وليكون مؤتَمَناُ على المصائر. وهذا الواقع الذي تكشّف يكفي للحكم عليه و يقضي بتغييره. وقد أصبح هذا التغيير واجباً إنسانياً أوّل لحفظ الوجود.

لا أمَلَ بالسلامة، إلاّ إذا أبكر العالم في معرفة هذه الحقائق، وسارع إلى المواجهة، وتمكّن من وضع الظلاميات جميعاً في محجر واحد، حيث تتناهش هي، ولا تنهش لحم الشعوب وقلب الحضارة كما تفعل الآن.

المهمّة الأولى، في عملية التغيير ورسالته، هي منع حصول الكارثة، بمنع هذا النظام من التقدّم نحوها والدفع إليها. وهي مهمّة فورية، وعلى دول العالم وشعوبه أن تتجنّد لها.

والمهمّة الثانية هي إيجاد ضمانات المستقبل وإنشاؤها.

ضمانات القوى العظمى كارثة، والضمانات العسكرية فاسدة وخطرة، والضمانات السياسية التقليدية قاصرة.

الأزمة أبعد من ذلك. إنها أزمة حضارة وصَلتْ إلى الطريق المسدودة، لعلّة في قِيَمها، ومفاهيمها، وعقليتها الخُلُقية، وكامل نظرتها إلى الوجود ومبادىء تعاملها معه. هي عدائية وإعتدائية على الإنسان والطبيعة وأجيال المستقبل. من هنا أنّ ضمانات المستقبل لا تكون إلاّ بثورة في الحضارة تقيم التوازن المفقود مع ثورة الوسائل، وتُنشىء محرِّضات إنسانية جديدة تستنفر خيرَ ما في الإنسان لا شرَّ ما في غرائزه المتوحّشة. المجتمعات هي الطرف الأصيل في هذه الثورة-الضمانة، وهي موضوعها ومسرحها وأداتها والوسيلة.

عندها، وعندها فقط، لا يكون "صدام حضارات" بل صراع حضاري. لا يكون صدام بين معسكرات، دينية أو عنصرية أو قارّية، بل صراع حضاري جديد في قلب جميع المجتمعات والأديان و"المعسكرات" بين ظلاميات الماضي وخيارات المستقبل. ثم يكون للظلاميات "أمَمية" تتصادم فيها أو تتلاقى على قضيتها، ويكون لخيارات المستقبل في جميع المجتمعات أممية تلتقي على المسؤولية عن ضمانات المستقبل.

الفصل الأوّل في هذا الكتاب يعرض لخطأ الإتّجاه القائم وخطره، ولتسارع الإندفاع في الطريق المسدودة على الآمال، المفتوحة على الكوارث.

الفصل الثاني يبحث في هروب القوة العظمى إلى الأمام ومضاعفة الأخطار بلجوئها إلى مشروع "مكافحة الإرهاب".

الفصل الثالث سيناريو كارثة حلّت بأميركا.

الفصل الرابع سيناريو تحويل الكارثة الأميركية إلى مصدر كوارث تهدِّد أمن البشرية الفيزيائي.

الفصل الخامس يبحث في الخيارات الأمنية التي هي، في الأساس، خيارات حضارية.

وقد نكون، في هذا القرن، أوّل مَن يواجه مفترَقاً فاصلاً حقيقياً في حياة هذا الكوكب، لإستمراره أو زواله. وقد يكون هذا أوّلَ المفترقات الفاصلة في التاريخ، المرهونة، كلّياً، بإنسانية الإنسان وخياراته المفتوحة. وهو مفترَق لن تعبره الإنسانية بسلام وسلامة إلاّ إذا تصحّح، إلى حدّ كبير، الخلل الحاصل بين أخلاق الإنسان ومهاراته. وطريق التصحيح، في رأينا، هو، أوّلاً، في إتّجاه "الآخر": أن يتّسع وجدان الإنسان "للآخر"، فيتّسع العالم لمن فيه ويخصب بما فيه، أو أن يضيق هذا الوجدان بـ"الآخر"، فيضيق العالم في ذاته على إستنفاد لذاته لا رجوع عنه.